المادة    
وهنا نرجع إلى كلام أحمد شاكر رحمه الله، وما نقله عن أخيه محمود شاكر رحمه الله.
يقول: ''وهذه الآثار عن ابن عباس وغيره''.
يقصد ما ورد فيها كفر دون كفر.
''مما يلعب به المضللون في عصرنا هذا من المنتسبين للعلم ومن غيرهم من الجراء على الدين، ويجعلونها عذراً أو إباحة للقوانين الوثنية الموضوعة التي ضربت على بلاد الإسلام، وهناك أثر عن أبي مجلز في جدال الإباضية الخوارج إياه فيما كان يصنع بعض الأمراء من الجور، فيحكمون في بعض قضائهم بما يخالف الشريعة عمداً إلى الهوى، أو جهلاً بالحكم.
والخوارج من مذهبهم أن مرتكب الكبيرة كافر، فهم يجادلون يريدون من أبي مجلز أن يوافقهم على ما يرون من كفر هؤلاء الأمراء''.
أي: يريدون أن يوافقهم في أن أمراء بني أمية كفار، قال: ''ليكون ذلك عذراً لهم فيما يرون من الخروج عليهم بالسيف''.
وهذا هو مذهب الخوارج أنهم يرون الخروج بالسيف لتغيير المنكر وإن كان منكراً في نظرهم فقط، وهذا الذي سبق إيضاحه، عندما شرحنا موضوع الأصول الخمسة، وذكرنا معنى هذا الأصل -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- عند المعتزلة والخوارج ومعنى هذا الأصل هو الخروج على الأئمة بالسيف، قال: ''وهذان الأثران رواهما الطبري، برقم: (12025) و(12026) وكتب عليهما أخي السيد محمود محمد شاكر تعليقاً نفيساً جداً، قوياً صريحاً، فرأيت أن أثبت هنا نص أولى روايتي الطبري، ثم تعليق أخي على الروايتين ''.
  1. مناظرة أبي مجلز للخوارج

    فروى الطبري برقم: "12025" عن عمران بن حدير قال: [[أتى أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس، فقالوا: يا أبا مجلز، أرأيت قول الله: (( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ))[المائدة:44] أحق هو؟
    قال: نعم، قالوا: (( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ))[المائدة:45] أحق هو؟
    قال: نعم، قالوا: ((وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ))[المائدة:47] أحق هو؟
    قال: نعم، فقالوا: يا أبا مجلز أفيحكم هؤلاء بما أنزل الله؟
    ]].
    فإن قال: نعم، قالوا: إن مخالفتهم واضحة، وإنكارها مكابرة، وكفى بـالحجاج ذنباً من بني أمية وأمثاله، وإن قال لهم: لا يحكمون بما أنزل الله؟
    قالوا: إذاً كفار.
    وهذه مشكلة يعاني منها كثير من الناس، وإن لم ينسبوا أنفسهم إلى الخوارج، فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لا يحاسب الناس باللافتات التي نسميها الآن في عصرنا الحاضر، فلو أنني قلت: أنا من أهل السنة، وأنا من أهل الأثر، وأهل الاتباع، ومن السلف، فإن الله لا يحاسبني بمجرد هذه الدعوى، ولا يحاسب غيري أنه يُنسب إلى الخوارج الإباضية وهو قد ظُلم في هذه النسبة، وهو فعلاً على السنة، وإنما ظلم في هذه النسبة، أو انتسب وهو لا يدري، كما أن بعض العلماء يقول: أنا أشعري ويقصد: أنا أثبت الصفات، فلا يحاسبه الله على منهج الأشاعرة في نفي الصفات.
    فالمقصود أن الحساب عند الله ليس بالانتماءات واللآفتات وإنما بالحقائق، فـالخوارج الخروج صفة من صفاتهم، وصفات الخوارج يمكن أن توجد في أي مكان وفي أي زمان، وتحت أي لا فتة أو اسم أو شعار، يمكن أن توجد صفة أو شعبة من شعب الخروج، وهذه لأجلها -والله أعلم- جعل العلماء كتب الخوارج والمرتدين والبغاة والمحاربين كتباً من كتب الفقه.
    ولو أن الخوارج هم -فقط- الفرقة التاريخية التي خرجت وانقضت لكانت تدرس في كتب التاريخ، أو كتب الملل والنحل فقط، لكن في كتب الفقه أحكام الخوارج لأنها صفة يمكن أن توجد في الناس في أي زمان وفي أي مكان، فصفاتهم التي بيَّنها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { أنهم يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان }.
    وهذه قاعدة: بأنه مهما كان الشخص يدَّعي الإخلاص، ويدَّعي العلم، واتباع السنة، ويدعي إنكار المنكر والعبادة، فـالخوارج يقول عنهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم} فهذا الكلام يُخاطب النبي صلى عليه وسلم به الصحابة رضي الله عنهم، ومع ذلك فهذه سيرة وعلامة من أعظم علاماتهم، أن عدواتهم منصرفة إلى أهل الإسلام، ولم يعرف ولم يشهد أن الخوارج جاهدوا الروم، ولا جاهدوا الفرس، ولا قاتلوا أعداء الإسلام، فهذا هو تاريخهم.
    وهذه من دلائل نبوة نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فهم يقاتلون المسلمين، ويُكفِّرون علماء الإسلام) ويطعنون في دين علماء الإسلام، ويحاربون أهل السنة ويزعمون أنهم ليسوا أهل السنة إنما هم مرجئة وإنما هم مداهنون، فيأتون لهم بألقاب يلمزونهم وينبزونهم بها.
    والشاهد: أن من طريقتهم في الاستدلال أنهم يظنون أن المسألة بهذا الإلزام سهلة، فيقولون: إما أن يقول: إنهم يحكمون بما أنزل الله، فنقول: إذاً هذا مثلهم؛ لأنه لا يكفر الكافرين ويشهد لهم بالإيمان فهو كافر، وإما أن يقول: لا، فنقول: فإذاً هم كفار فلماذا تجادل عنهم؟
    هكذا ظنوا المسألة إما كذا وإما كذا .
    وهذه أيضاً إحدى صفات الخوارج؛ لأن الأمر قد يحتمل أكثر من وجهة نظر، وقد يكون فيه سعة أو له جواب ثالث... وهكذا، فعدم تفصيل المجملات والمبهمات والعمومات مما ضل الناس بسببها، حتى قيل: إن أكثر ضلال الناس واختلافهم هو بسبب المجملات، وعدم تحرير موضع النـزاع.
    قال أبو مجلز الفقيه العالم : [[هو دينهم الذي يدينون به، وبه يقولون، وإليه يدعون، فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً]].
    قال: الحكم بما أنزل الله بالنسبة للأمراء هؤلاء -بني أمية ومن معهم- هو دينهم الذي يدينون به، ولم يأتوا بقانون آخر، ولم يأتوا بالتوراة ولا الإنجيل ولا قانون الروم أو الفرس، فدينهم الحكم بما أنزل الله، وبه يقولون وإليه يدعون -أي: إلى الكتاب والسنة- فإن هم تركوا شيئاً منه أو قصروا في شيء عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً، وهم مقرون بمخالفتهم فيما خالفوا فيه، وهذا المعيار معيار سليم ودقيق جداً، فلو أنهم جاءوا بشريعة أخرى أو بقانون آخر لكان الحكم مختلفاً.
    قال: [[فقالوا: لا والله ولكنك تَفْرَق! -أي: تخاف- قال: أنتم أولى بهذا مني! لا أرى، وإنكم ترون هذا ولا تحرَّجون -أي: أنتم أولى بهذا التفكير، وأنتم لا تتحرجون فيه- ولكنها أنزلت في اليهود والنصارى وأهل الشرك أو نحواً من ذلك]].
    فكلام أبي مجلز هنا مثل الذي جاء في حديث البراء من كلامه أو مرفوعاً: { أنها في الكفار } أما أن يكون الحكم بما أنزل الله هو دينه، وبه يقول، وإليه يدعو، وإذا خالفه فإنه يتحرج ويشعر أنه قد خالف أمر الله، فهذا ليس ممن حكم بغير ما أنزل الله.
    قال: ''ثم روى الطبري الأثر (12026) نحو معناه، وإسناداه صحيحان''.
  2. تعلق بعض المنتسبين للعلم بخبر أبي مجلز

    قال : ''فكتب أخي السيد محمود محمد شاكر بمناسبة هذين الأثرين ما نصه: اللهم إني أبرأ إليك من الضلالة، وبعد:
    فإن أهل الريب والفتن ممن تصدروا للكلام في زماننا هذا، قد تلمس المعذرة لأهل السلطان في ترك الحكم بما أنزل الله، وفي القضاء في الدماء والأعراض والأموال بغير شريعة الله التي أنزلها في كتابه، وفي اتخاذهم قانون أهل الكفر شريعة في بلاد الإسلام، فلما وقف على هذين الخبرين، اتخذهما رأياً يرى به صواب القضاء في الأموال والأعراض والدماء بغير ما أنزل الله، وأن مخالفة شريعة الله في القضاء العام لا نكفر الراضي بها، والعامل عليها''.
    يشير الشيخ محمود إلى ما وقع فيه كثير ممن ينتسبون إلى العلم، وهذه مأساة وقعت، وخاصة في مصر ابتدأها الاستعمار وأعوانه من أيام دولة محمد علي باشا بما يسمونه (قانون القناصل) ثم توسع القانون فأنشئت محاكم أهلية، ومحاكم أجنبية، ومحاكم ملية، وتوسع في الأمر لما جاء الإنجليز وجاء كرومر وجاء الشيخ محمد عبده، فأخذ يمهد لتنظيف القانون الفرنسي، وجاء تلميذه مصطفى المراغي فزاد الطين بلة -نسأل الله العفو والعافية- والمراغي هو الذي قال للجنة وضع القوانين: ضعوا أي تشريع أو قانون ترونه مناسباً للمصلحة وللعصر واكتبوه وأنا أُخرِّجه لكم من أي مذهب من المذاهب الفقيهة، فهكذا أصبحت الجرأة على الله إلى هذا الحد يخرجه إما على قول ضعيف، أو على قول راجح لكنه على مذهب خطأ، أو حتى على قول من أقوال العلماء الشاذة، أو قول من أقوال من لا يعتد بخلافهم كـالإمامية الإثني عشرية، ولذلك من الأشياء الطريفة التي ذكرها الشيخ محمد أبو زهرة أنهم كانوا لا يعترفون بالمذهب الحنبلي، ولو رجعنا إلى كتاب الجبرتي في تاريخ مصر وهو أشهر كتاب في تاريخ مصر، وكان صاحبه حنبلياً، وكان يثني في كتابه على دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وعلى رسائل الأئمة، ويذكر قصص الخرافيين والمشركين، فالكتاب فيه فوائد من هذا الجانب، فالمذهب الحنبلي كان موجوداً لكن من كراهيتهم له لا يذكرونه، ويقولون: إنه كما قال الطبري وأمثاله: أحمد بن حنبل ليس فقيهاً، وإنما هو محدث، وكذلك ابن رشد في بداية المجتهد وغيره يذكر الفقهاء الثلاثة ولا يذكرون إلا مذهب أهل الحديث عامة إن ذكروه، فيجعلون الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه والبخاري ومسلم وأمثالهم، إما من أتباع أحد المذاهب الثلاثة، وإما من أهل الحديث في الجملة ولا يذكرون المذهب الحنبلي.
    والشاهد من ذلك أنه جاء في موضوع الزواج، وهم يريدون فرض القانون الفرنسي الذي لا يبيح للرجل أن يتزوج أكثر من زوجة، وهذا هدف عظيم للاستعمار، فهو يسعى إلى إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا وأمر آخر: هو تقليل نسل المؤمنين، وخاصة في إفريقيا كما يقولون.
    فـالنصرانية المحرفة أخذوها وأرادوا أن يفرضوا القانون الخبيث في بلاد المسلمين، فوجدوا أن المذهب الحنبلي يجيز للزوجة أن تشترط ألاَّ يتزوج الزوج عليها، فأخذوا به وجعلوها في قانون الأحوال الشخصية، قالوا: ورجعنا أيضاً إلى المذهب الحنبلي وأخذنا منه اشتراط ألاَّ يتزوج عليها، وهذا دليل على أن المذهب الحنبلي فيه مرونة، وأنه يناسب العصر ويصلح أن يستفاد منه.
    فالمقصود أن هؤلاء الناس خبثاء، ويتكلم الشيخ محمود شاكر عن هؤلاء، حيث أنه كان يرى واقعاً مؤلماً، فأي أمر يُعرض فيه أمر لتطبيق الشريعة، فيقولون: هل تريدون أن تكون الشريعة مصدراً رئيسياً، فيقول الدعاة والمشايخ وأمثالهم: لا. بل نريد أن تكون المصدر الرئيسي، وقامت على ذلك المشاكل طوال الدهر، هل هو مصدر رئيسي أو المصدر الرئيسي، فلجنة تضع المسودة، ولجنة تلغي المسودة... وهكذا أربعين سنة أو أكثر، والأمر لم يتغير فيه شيء، ولم يطبق من أحكام الله أي شيء، وكأن القضية قضية الألف واللام، نكتب "أل" أو لا نكتب "أل"، والقضية قطعاً ليست كذلك، وإنما هذه قلوب لا تريد أن تذعن لله ولا تؤمن بالله حق الإيمان، ولا تريد أن تستسلم لحكم الله كما ذكر الله: ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً))[النساء:65] فهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وقد أمروا أن يكفروا به، كما ذكر الله عز وجل، ولذلك يجعلون القضية -قضية اللجنة- أن المسودة لم تكمل، وعندما أكملت المسودة بعد سنين، قالوا: يعرض على المجلس، فإذا عرض على المجلس قالوا: نجعل الشريعة مصدراً رئيسياً وليست المصدر الرئيسي، سبحان الله!!
    ولو فرضنا أنها المصدر الرئيسي، فمعنى ذلك: أن هناك مصادر ثانوية -فمثلاً-، لو قلنا: إن كل شيء لله، وكل شيء نعبد الله فيه ونطيع الله فيه إلا ثلاثة أو أربعة أمور نعصي الله فيها، ونأخذ غير شرع الله، ونستمدها من التوراة أو من الإنجيل أو من الياسق، فحكمنا فيها حكم من أخذ البعض وترك البعض، فسيكون قد ترك الكل، لكنهم أشغلوا الأمة بهذه الأمور، فإذا جاء من يطالب بإقامة حكم الله ودين الله، قالوا: هذا متطرف، وهذا عميل، وهذا متخلف، ورجعي، وضد التطور، وضد التحرر، ويحتجون عليه بعلماء السوء، فالشيخ شاكر كان يكتب هذا وهو يعانيه ويعيشه.
  3. حقيقة واقع السؤال والإجابة

    يقول: ''والناظر في هذين الخبرين لا محيص له عن معرفة السائل والمسئول''.
    فهو يعرفنا بالنوعين السائل الخوارج، والمسئول الذي هو أبو مجلز، قال: ''فـأبو مجلز لاحق بن حميد الشيباني السدوسي تابعي ثقة كان يحب علياً رضي الله عنه، وكان قوم أبي مجلز وهم بنو شيبان من شيعة علي يوم الجمل وصفين، فلما كان أمر الحكمين يوم صفين، واعتزلت الخوارج، كان فيمن خرج على علي رضي الله عنه طائفة من بني شيبان وبني سدوس ابن شيبان بن ذهل، وهؤلاء الذين سألوا أبا مجلز ناس من بني عمرو بن سدوس، وهم نفرٌ من الإباضية .
    والإباضية من جماعة الخوارج الحرورية''.
    وأبو مجلز رحمه الله التابعي الثقة يلتقي في نسبه مع إمام عظيم، هو الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، من نسل قبيلة شيبان بن ذهل التي ينتسب إليها الإمام أحمد، وهم من ربيعة، وهناك عوامل جاهلية جعلت الخوارج يكثرون في ربيعة.
    والمأمون له كلمة في هذا، وقد تكون حقاً، يقول: ''أما ربيعة فلم تزل ساخطة على الله منذ أن جعل النبوة في مضر، وما خرج منها اثنان إلا كان أحدهما شارياً''.
    أي: من الشراة وهم الخوارج، كان يُقال لهم: الخوارج والشراة والقراء، فـالمأمون عباسي فيتكلم عمن خرجوا على خلافة بني العباس وانضموا إلى غيره، وبالذات هؤلاء الشراة، لأن الخوارج يقولون: الإمامة حق لكل مسلم، قرشياً أو غير قرشي، فيقولون: لماذا يشترط أن يكون قرشياً؟
    فيعللها المأمون بقوله: إن ربيعة -التي خرج منها كثير من الخوارج- ساخطة على الله لأنه اختار نبيه من مضر، ولأن الخلافة لا تكون إلا في قريش بالذات.
    وبعد ذلك تأتي مسألة الخلاف بين أهل البيت، فالعباسيون يرون أن العم أولى، والعلويون يرون أن ذرية فاطمة أولى...إلخ.
    لكن المقصود: هو أن العباسيين والأمويين -أي: المنتسبين إلى علي رضي الله تعالى عنه- متفقون جميعاً على أصل، وهو أن الخلافة في قريش، لكن الخوارج -ومنهم هؤلاء الذين ينتسبون إلى ربيعة- يقولون: لا، بل الخلافة في أي مسلم كفء، فـالمأمون يُعلل قولهم هذا.
    والمقصود أن هؤلاء الإباضية، جاءوا يسألون أبا مجلز رحمه الله. قال: ''الإباضية من جماعة الخوارج الحرورية، وهم أصحاب عبد الله بن إباض التميمي، وهم يقولون: بما قالت سائر الخوارج، في التحكيم، وفي تكفير علي رضي الله عنه، إذ حكّم الحكمين'' والخوارج، كثير منهم من بني تميم، وبنو تميم من مضر.
    والنبي صلى الله عليه وسلم حين جاءته صدقات بني تميم، قال: {هذه صدقات قومنا} فهم أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم نسباً من ربيعة أو مع ذلك كثير من الخوارج من بني تميم.
    ولهذا نقول: إن القضية ليست قضية عنصرية وعصبية، وصحيح أن العنصرية في الجاهلية كان لها دور، لكن ليس كل الخوارج ينطلقون من منطلق العصبية، وإلا لما خرج معهم بعض من قال بقولهم، وهم من مُضر، فكان الأولى أن يتعصبوا لقريش، لكن الضلال لا يعرف العنصرية، نسأل الله العفو العافية.
    فإنه إذا أضل الله أبدأ، فقد خرج من بعض أحفاد جعفر الطيار رضي الله تعالى عنه، من أدَّعى النبوة وأفسد في الدين، وهذا في عمر بني أمية، المسألة فالضلال يوجد في كل فخذ وفي كل قبيلة، وفي كل شعب.
    قال: ''فهم يقولون-الإباضية- مقالة سائر الخوارج، في التحكيم وفي تكفير علي رضي الله تعالى عنه، إذ حكّم الحكمين، وأن علياً لم يحكم بما أنزل الله في أمر التحكيم''.
    وهذه المسألة من المسائل التي ناظروا فيها عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، وكان مما جادلهم به، أن الله سبحانه وتعالى شرع لنا التحكيم في سورة المائدة: ((يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ))[المائدة:95] فكيف بصلح بين طائفتين عظيمتين من المسلمين.
    إذاً: ليس التحكيم كفراً كما تزعم الخوارج.
    قال: ''ثم إن عبد الله بن إباض، قال: إن من خالف الخوارج كافر ليس بمشرك، فخالف أصحابه، وأقام الخوارج على أن أحكام المشركين تجري على من خالفهم، ثم افترقت الإباضية بعد عبد الله بن إباض الإمام افتراقاً لا ندري معه في أمر هذين الخبرين، من أي الفرق كان هؤلاء السائلون، إذ أن الإباضية كلها تقول: إن دور مخالفيهم دور توحيد، إلا معسكر السلطان، فإنه دار كفر عندهم''.
    وهذا مما بقيت في عقائد الإباضية إلى اليوم.
    الخوارج ثلاث طبقات -ثلاث درجات في الغلو- أشدهم غلواً الأزارقة ثم النجدات، ثم الإباضية.
    فـالإباضية أخفهم، وليس معنى هذا أنهم على السنة والهدى، لكنهم لا يكفرون كل من خالفهم كما فعل أولئك، لأنهم يقولون: الكفر ينطلق على السلطان وجنده فقط، وأما الرعية فليست كافرة.
    ثم قالوا: إن جميع ما افترضه الله سبحانه على خلقه إيمان، وهذا الكلام مما يشنع به المرجئة وأمثالهم على أهل السنة، فيقولون: إنكم على مذهب الخوارج.
    فنحن نعتقد -أيضاً- أن كل شعب الإيمان إيمان، فالصلاة إيمان، والزكاة إيمان، والصوم إيمان حتى إماطة الأذى عن الطريق إيمان. وفي هذا القول الخوارج يوافقون فيه أهل السنة، لكن قالوا: من ترك شيئاً من الواجبات كفر، وأهل السنة قالوا: من ترك شيئاً من شعب الإيمان عصى أو نقص إيمانه، إلا من ترك أعلى الشعب، التي هي شهادة أن لا إله إلا الله ولوازمها، أو ترك أحد الأركان عامداً... إلخ، مما يكفر به الإنسان، فهنا الفرق.
    فنحن نقول: إن قولهم بأن كل شعبة من شعب الإيمان -أو كل ما أمر الله به- هي إيمان، هذا القول حق، لكن رتبت عليه الخوارج أن من لم يفعله ولم يأت بهذا الواجب فهو كافر، وهذا عند النجدات، وعند الأزارقة، أما الإباضية فقالوا: نحن نخفف قليلاً، فنقول: هو كافر، لكن كفر النعمة، وليس كفراً ينقل عن الملة، فقالوا: فهو كفر نعمة لا كفر الشرك، وأن مرتكبي الكبائر في النار خالدون مخلدون فيها، فهذه هي عقيدة الإباضية، وهم موجودون اليوم في عُمان والجزائر وفي غيرها.
    وفي كتبهم أن من قال: إن الله تعالى يرى في الآخرة، فهو عندهم كافر خالد مخلد في النار، وصاحب الكبيرة عندهم -أيضاً- كافر خالد مخلد في النار، فهذا دينهم إلى اليوم.
    فيقول الشيخ محمود: ''ومن البيّن أن الذين سألوا أبا مجلز من الإباضية، إنما كانوا يريدون أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء؛ لأنهم في معسكر السلطان -معسكر الخلافة- ولأنهم ربما عصوا وارتكبوا بعض ما نهاهم الله عن ارتكابه.
    ولذلك قال لهم في الخبر الأول: فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً''.
    يقول: إنهم تقع منهم معاصي لكن يعلمون أنها معاصي.
    ''وقال لهم في الخبر الثاني: إنهم يعملون بما يعملون ويعلمون أنها ذنب''.
    أي: ويعتقدون، وليس المقصود هو مجرد المعرفة بل المعرفة، فشخص يفعل ذنب، ويقول: أنا أعرف أنه ذنب، فهذا لا يكفي إلا إذا اعتقد أنه ذنب، وأنه حرام فلا يكفر، إما لو استحله، واعتقد أنه حلال، مع معرفته أنه حرام، فإنه يكون كافراً .
    إذاً: قد يجتمع الاستحلال مع المعرفة، فيقول: أعرف أنه حرام، لكن يستحله، فليس المقصود بالعلم مجرد المعرفة، لكن المقصود بالعلم هو الاعتقاد، أي: يعتقدون أنه حرام، فكيف نكفرهم؟!
  4. توضيح كون التبديل إعراض عن شرع الله

    قال: ''وإذاً فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا''. بل سؤالهم في موضوع آخر ليس عما يحتج به مبتدعة زماننا: ''من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة الله، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم''. فهو يقول: القضية قضية مختلفة تماماً عما يقوله هؤلاء المبتدعة، ونلاحظ في عبارة الشيخ رحمه الله عدة أشياء: أول شيء: أنه القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون -قانون عام- مخالف لشريعة أهل الإسلام، يحتكم إليه. ثانياً: قال عبارة أخرى: '' ولا في إصدار قانون ملزم ''. أي: إن خلفاء بني أمية أو بني العباس، أو غيرهم من المذنبين، أخطأوا فلم يقيموا بعض الأحكام وقصروا فيها إما لهوى أو لشهوة، لكن الحكم الشرعي موجود، ولم يأتوا بقانون ملزم مخالف للشريعة، وعلى ذلك فيوجد فرق كبير جداً بين الحالة الأولى وهذه الحالة. فهنا عندنا حالة تشريع إلزامي، تلزم به الأمة، ويطبق عليها، ويحاكم ويحاسب من خالفه، ويعاقب من أعترض عليه. أما الحالة الثانية فهو: ذنب وقع من إنسان، وإذا سئل قد ينكر، أو يعتذر بأن بعض العلماء أفتاه بذلك، أو أنه حكم على مذهب كذا، فهو ليس معتقداً وملزماً به للناس، بل هو في نفسه لا يرى أنه حلال لنفسه فضلاً عن أن يلزم به الناس. قال: ''فهذا الفعل -أي: إصدار قانون ملزم للناس بغير كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم- إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك فيه أحد من أهل القبلة -على اختلافهم- في تكفير القائل به، والداعي إليه''. أي: الفرق القديمة لم تكن تتكلم عن هذه القضية، بل كانوا يتكلمون عمن يخالف في قضايا أفراد -قضايا معينة- أما إلزام الناس بدين غير دين الإسلام، فلم يخالف في هذا أحد، حتى يأتي مبتدعة زماننا الآن ويقولون: إنه لا يزال مسلماً.
  5. توضيح لواقع هذه القوانين

    يقول: ''والذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتعطيل لكل ما في شريعة الله''.
    وقول الشيخ محمود: بلا استثناء صحيح من جهة، فإن عندهم قانون الأحوال الشخصية وفق الشريعة، وبعض الدول زيد قليلاً في باب المعاملات، فنقول: لا يعتبر شيء من ذلك أنه إقامة لحكم الله، حتى قانون الأحوال الشخصية لا يعتبر أنه إقامة لحكم الله، لأن القوم الذين يطبقون قانون الأحوال الشخصية، لا يطبقونه على أنه منـزل من عند الله، ولا يقولون: نحن ملزمون به ولو خالفناه لأثمنا، ولوقعنا في الإثم والحرج، وأنه لا تصلح حياة المخلوقين والعباد إلا بهذا الشرع الذي أنزله الله، فهم لا يعتقدون ذلك، إنما هذا جانب من جوانب الحياة، وضعوا له تشريعات كما وضعوا للاقتصاد وللسياسة وللاجتماع، وللأحوال الجزائية، فوضعوا محاكم تجارية، وعمالية، وإدارية، وكل شيء وضعوا لها قوانين، فبقي هذا الجانب، فقالوا: هذا الجانب نأخذه من الشريعة، نقتبس -مثل ما ذكرنا- من الإمامية، والزيدية، والإباضية، والحنابلة والشافعية، فنركب شيئاً على شيء حتى نكمل جانباً من جوانب الحياة.
    لكن هذا الجانب لم يجعلوه كلياً بعيداً عن الدين؛ لأنه من الصعب على الناس أن تقول لهم: اذهبوا افعلوا عقد الزواج في البلدية، وهذا قد حصل، وقد فعله المجرم الخبيث كمال أتاتورك، وقال: الدين يلغى نهائياً، ولا يفعل عقد زواج عند مأذون أو شيخ، بل في البلدية، فهناك موظف مدني يكتب العقد، مثل أي عقد آخر، فألغى المسألة تماماً، لكن في هذه المسألة وجدوا أن في تركيا نفسها لم يقبل الناس ذلك.
    لأن هذه أشياء شخصية للغاية لو أخرجناها من عند الناس، فإن الناس لا يقبلون بهذا، فهم جاءوا بالشريعة الإسلامية حتى يكملوا القانون الوضعي، فهم يريدون أن يجعلوا القانون أبواباً متكاملة، وبقي لهم باباً اسمه: الأحوال الشخصية، قالوا: نكمله من الشريعة، فأخذو ما يعجبهم من الشريعة، وخلطوه بغيره وكمَّلوا الباقي، فهذا شيء.
    والشيء الآخر: أنه إنما يأخذ شرعيته عندهم من إصدار الدولة له واعتباره قانوناً.
    فمثلاً: شخص درس أحكام الطلاق، وخرج من دراسته بنتائج ونشر الكتاب، فمن يقرؤه من المسلمين يجد الدليل واضحاً فيه على مسألة من مسائل الطلاق، فالواجب عليه أن يتبعه ويعمل به رأساً، فإذا قرأ قاضي من القضاة هذا البحث، ورأى أن هذا الحكم أحسن من الحكم الذي كان يحكم به على المذهب، فإنه يطبق الحكم مباشرة، وهذا هو الواجب وهو الحق؛ لأن وظيفة العلماء هي الكشف عن حكم الله، وتبيين أن هذا هو حكم الله، أما الإلزام به فإنه من الله، فيلتزمه الناس؛ لأنه من عند الله .
    فالعالم يكشف عن أدلة حكم الله ويبينه، ثم ينتهي دوره، وبعد ذلك يجب على الأمة أن تعمل به -القاضي والحاكم والأمير والصغير والكبير- لكن في القانون الوضعي لو افترضنا أن شخصاً وضع مسودة للأحوال الشخصية، وضبط كل شيء فيها، ورتب فيها الأحكام الشرعية، مادة كذا ومادة كذا، وهذا حتى لا يقولون: أنتم عندكم أحكام وأبواب الفقه غير مرتبطة هكذا يظنون .
    فهذا شخص قال: أنا أضع لكم الأحكام الشرعية على الطريقة القانونية، مادة وراء مادة، ثم نشره بين الناس، فإذا جاء شخص يعمل في المحكمة القانونية، وعمل به، وقال: إني عملت بمشروع الأحوال الشخصية المقدم من فلان، فإنهم يضحكون عليه، ويقولون: إنه مجنون، لأن هذا المشروع لم يعتمده وزير العدل ولم يقره رئيس الجمهورية، لأن الإلزام عندهم ليس من كونك أبنت عن الحق، وأتيت بأدلة أرجح، بل الإلزام عندهم من السلطة، ولهذا فهم يفرقون بين القانون وبين المبادئ الأخلاقية، فالقانون عندهم لا بد أن يكون من السلطة، وأن يكون ملزماً به، وإلا أصبح توجيهات أخلاقية.
    ولهذا لا تجد في القانون شيئاً اسمه مستحب، حتى في نظام المرور ونضرب لذلك -مثالاً- في القانون لا شيء اسمه مستحب للسائق، فإذا وقف فإما أن يعاقب أو ليس عليه شيء، وهذه من الفروق الكبيرة جداً بين شرع الله وبين أنظمة البشر، حتى ولو كانت من تنظيم الأمور الجائز، فنظام المرور، فلا نقول فيه شيئاً، إذا لم يخالف الشرع، فأنت تنظم أمور الناس به، لكن في الإسلام أنت عندك أمور:
    مثلاً: لو تركت الأفضلية في المرور للكافر فإنك تأثم، ولو كان الذي يمر أمامك عاجز أو ضعيف أو أكبر منك أو.. فأعطيته فرصة للمرور، فهنا قول: هذا مستحب، وربما قد يجب فأنت في كل أحوالك تتعبد الله سبحانه وتعالى، وتشعر أنك إما مرتكب لمحرم، أو تارك لواجب، أو أنك مسدد ومقارب، وهذا الشعور حسن.
    أما عندهم، فإما أن يستحق العقوبة فهذا قانون، أو ليس عليه عقوبة فهذا يسمى توجيهات أخلاقية، ولا تُذكر في القانون، ولا يتعرضون لها، وممكن عندهم أن يكتب عنها صحفي في الجريدة، ولهذا عندهم الصحافة وهم أصحاب الجلالة الرابعة، فهي تُكمل الجوانب التي لم يأتِ بها القانون، فتقول للناس: لماذا تفعلوا كذا، ولو كنا نفعل كذا، ومن سمات المواطن الصالح أنه يفعل كذا، ويترجَّون الناس، ولا يوجد عندهم شيء اسمه: مستحب، أو مندوب إليه وتأجر عليه، بل القضية عندهم هي أن هذا مواطن أحسن خلقاً من الآخر، وهذا أفضل مواطنة من الآخر، فهذه هي القضية عندهم .
    فمن هنا كان الفرق كبيراً جداً بين ما شرعه الله وما فيه الرحمة، والعدل للعالمين أجمعين، والخير واليسر والبركة وبين تشريعات هؤلاء.
    فالآن عندما يقول الشيخ: "بلا استثناء"، فإن كلامه صحيح من جهتين، لأن هذا التشريع الذي هو من الذين لم يقم لأنه من عند الله، ولم يستمد الإلزام -أيضاً- من كونه من عند الله، وإنما لأن السلطة ألزمت به وانتقت واختارت بعض الأشياء من الشريعة، وممكن تغيرها في أي لحظة وتلغيها إذا أرادت، وتضع غيرها.
  6. وجه احتجاج الزنادقة على تفضيل أحكام القانون الوضعي

    يقول: ''بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنـزلة، وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة، إنما أنزلت لزمان غير زماننا''.
    وقد كتب مصطفى أمين: إن أحكام الشريعة، أو ما يدعو إليه المتطرفون، إنما نزلت في أيام الجمل، والحمار وكذا...، أما في عصر الصاروخ والطائرة فلا بد من أخذ القوانين الوضعية، ومن شاء أن يذهب إلى القوانين القديمة فعلى الأقل عليه أن يقيمها في نفسه، ويأخذها ولا يدعو الأمة إليها، ولو كان راكباً حماراً، فهو يقول: إذا أخذت الطيارة والصاروخ والكيمياء والعلوم فإنك تأخذ معها القانون الوضعي، وإما إن كنت تريد أحكام الله فتأخذ معها ركوب الجمل أو ركوب الحمار، فهذا ربطوه هكذا.
    فيقول: ''إنما نزلت لزمان غير زماننا، ولعلل وأسباب نقضت''.
    فهم يقولون: الأسباب والعلل التي نزلت من أجلها الشريعة -كما يقول هؤلاء المبطلون المرتدون- انتهت، وهذا مثلما يقولون في التاريخ أحياناً: بعث الله محمداً -وأحياناً لا يقولوا: الرسول، بل يقولون: أرسل الله محمداً، وهكذا صلى الله عليه وسلم، ولا يذكرون الصلاة عليه- لأن العرب كانوا يعبدون الأوثان، ويقدسون الأصنام، ويئدون البنات، فبعث الله النبي صلى الله عليه وسلم، للقضاء عليها، والذي لا يعرف قصدهم يقول: هذا كلام حسن، ولكنهم يقصدون بهذا الكلام أنه الآن لا أحد يعبد الحجارة، ولا أحد يئد البنت.
    إذاً: هذه القضية انتهت.
    والآن عندهم مشاكل أخرى، فعندهم مشكلة في الإسكان، ومشكلة التضخم، والنسل -زيادة أعداد الناس- ومشاكل التنمية، أما مسألة عبادة الحجارة، ووأد البنات، فهذه كانت قديماً وانتهت، فهذا هو الكفر الذي يزينونه للناس، لأنهم مهرة وفنانون في ذلك.
    فالفنانون الذين يشيعون الفاحشة -الأفلام وغيرها- وهم جزء من الفنانين في فن النفاق الأكبر الذي يريدون به أن الأمة تُمسخ وتنسى ذاكرتها ودينها وعقيدتها وأخلاقها، فتصبح ممسوخة، بحيث يصبح الشخص أفرنجياً لكن ليس أفرنجياً من الفرنجة الغربيين، بل أفرنجي ممسوخ تماماً، فلا تعرف ولا ترى منه أي ملمح، فلا هو أفرنجي حقيقي، ولا هو ذلك المسلم الذي يعرفه الناس.
    قالوا: ''فسقطت الأحكام كلها بانقضائها -لانقضاء العلل والأسباب- فأين هذا مما بيناه، في حديث أبي مجلز والنفر من الإباضية، من بني عمرو بن سدوس؟
    ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة، فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام، أن سن حاكم حكماً وجعله شريعة مُلزمة للقضاء بها هذه واحدة''.
    وهذا مهم جداً وقوي؛ لأنه على مدار التاريخ الإسلامي لم يوجد أحد تجاوز هذا وسن حكماً وجعله شريعة ملزمة، فأما الياسق فهو موروث، لكن حاكم مسلم يشرع شرعاً ويفرضه، فهو يقول: إن هذا لم يحصل.
  7. أحوال الحاكم المسلم الذي حكم بغير ما أنزل الله

    قال: ''والأخرى أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها، بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة، وإما أن يكن حكم بها هوىً، ومعصية، فهذا ذنب تناله التوبة، وتلحقه المغفرة''.
    أما بالنسبة للمغفرة فإن تاب وإلا فهو تحت المشيئة: ''وإما أن يكون حكم بها متأولاً حكماً خالف به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار ببعض الكتاب وسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم''.
    فهذا الحاكم قد يقول: أصنع منفعة للمسلمين، فخالف في قضية معينة، وهو ملتزم بشرع الله، ويدين به، ويعلم أنه الشرع ولا غيره، فإما أنه جاهل، والجاهل له أحكام، وإما أن يكون صاحب هوى ومعصية، فهذه من الكبائر.
    وإما أن يكون حكم بغير ما أنزل الله متأولاً، ففهم الدليل فهماً غير صحيح، أو تأول على قول من أقوال العلماء.
    والمهم أنه يحكم في محكمة لا تحكم إلا بما أنزل الله، وفي ظل سلطان لا يحكم ولا يأمر الناس إلا بما أنزل الله، لكن خالف في مسألة، فليس كل القضاة معصومين، بل القضاة يخطئون وهم في محاكم شرعية، ويحكمون بالشرع، فهذا الخطأ لا يخرج عن ثلاث حالات:
    أولاً: إما جاهل: اعترف عنده شخص أنه شرب الخمر، وأقرّ بذلك، فقال: ليس عليك شيء، لماذا؟
    قال: قد يكون معذوراً، أو مكرهاً، أو جاهلاً، وقد يكون رجع عن الإقرار، كما يفعل بعض الناس، فهذا يكون حكمه حكم الجاهل الذي لم يمحص الشروط والأدلة.
    أو حاكم ترك حد السرقة فلم يقمه على أحد، جهلاً منه بالنصاب أو نسي أو لم يعرف.
    والجهل صوره كثيرة، وبعض الناس قد يستغرب: كيف يجهل الحاكم هذا؟!
    وكيف يخفى عليه هذا؟!
    وفي الحقيقة عندما تقرأ عن بعض الصحابة، فإنك تجد أموراً خفيت عليهم، فتتعجب منها، وتقول: كيف يجهلونها، فمثلاً: عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه، كان لا يرى القراءة في الصلاة السرية، وهذا في صحيح البخاري، فتقول: هل يُعقل أن ابن عباس، وهو حبر الأمة، لا يدري أن القراءة واجبة في الصلاة السرية، وغيرها أشياء كثيرة، قد يستغرب الإنسان منها، وأيضاً قد يخفى عليه بعض الأحكام، وقد لا تبلغ هذا الحاكم.
    والمقصود أن -خفاء الحكم بمعنى أعم- باب الجهل، وهذا يقع من القضاة حتى في عصر النبوة، وفي عصر الخلافة الراشدة.
    ثانياً: أن يحكم هوىً ومعصية.
    مثلاً: يكون هذا السكران ولد عمه أو قريبه، أو يعمل في مكان قد يخدمه منه، فيقول: لو أقمنا عليه الحد سوف تكون فضيحة، وأهله يقولون له: لم نجد من منفعة إلا أنك تطبق الحد على ابن عمنا، وهذه سوف تفشل القبيلة كلها، ولا بد تحكم أنه بريء، وهذه الحوادث تقع، بل وكثيراً ما تقع هذه، فيـبـرئه، ويقول: ليس عليه شيء.
    والثالث: المتأول.
    أي: هو عنده دليل لكنه فهمه على غير وجهه، فهو ليس كالجاهل؛ لأنه يخالف الجاهل من جهة أن الأول خفي عليه الحكم، أما هذا فعنده دليل لكنه فهمه على غير وجهه، مثلما تأول الصحابة: ((لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا))[المائدة:93].
    فرجل مؤمن تقي، ماذا عليه إذا شرب الخمر؟
    إذا ليس عليه جناح، مع أن هذه الآية لا تصلح دليلاً، لكنه تأولها كما يتأول بعض الناس؛ وقد ذكرنا بعض التأويلات أنها قد تكون باطلة أو صريحة، فبعض الناس -مثلاً- يريد أن يرد عليك، فيقول لك: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ))[الحجرات:13].
    إذاً: نساوى في الحدود بين الإماء وبين الحرائر -مثلاً- في الجلد؟
    فيقول لك: ((إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ))[الحجرات:13] فهذا تأول، والحقيقة: أن الدليل غير ذلك.
    ويُتصور -أيضاً- أن التأول وارد في أحكام كثيرة، ولو لا الجهل والخطأ والتأول؛ لم تكن أحكام الفقه مملوءة بالترجيح، وبيان الخطأ، والشذوذ؛ وهذا حاصل لأنها موجودة .
    أما المعصية فهي ملء الأرض؛ والناس يخالفون أمر الله في أشياء كثيرة.
    إذاً: هذه الأحوال الثلاثة.
    قال: ''وأما أن يكون في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكمٌ حكم بقاء في أمر جاحداً لحكم من أحكام الشريعة، أو مؤثراً لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام؛ فذلك لم يكن قط''.
    فهذا لم يقع ولم يحصل، والخوارج لم يسألوا عنه، وأبو مجلز لم يُجب عنه، وهذه الصورة غير واردة، فصورة أن شخصاً يحكم بحكم أو بقضاء غير كتاب الله، جاحداً لما أنزل الله، مؤثراً لأحكام أهل الكفر، ثم يقول: أنت يا أبا مجلز أو غيرك ليس لكم علاقة في الموضوع، وهذا القانون الذي حكمتُ به أخذناه من الفقه الروماني، لأنه من فقه هذه الأمة المتحضرة الراقية، فهذه الصورة لا يشك أحد في كفر هذا الحاكم أبداًَ لا في زمن أبي مجلز أو غيره.
    ولو قال شخص: هذا من أحكام الدول المتقدمة، ونحن أخذناه من الدول المتطورة. قالوا عنه الناس: جزاه الله خيراً، هذا يريد يطور البلد، ويريد أن يتقدم البلد، فالفرق ليس في عمله هو، بل الفرق في نظرة الناس إليه، لأنهم جهلوا دينهم.
    قال: ''فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه''.
    أي: لا ينصرف إلى هذه الحالة -حالة الجحود- أبداً، فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما مثل قول ابن عباس وطاوس ومجاهد: كفر دون كفر، من احتج بها في غير بابها، وقال: كفر دون كفر، مثل من يأتي بالقانون الوضعي ويقيمه ويطبقه، ويقول: هذا كفر دون كفر، قال: ''فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابها، وصرفها إلى غير معناها، رغبة في نصرة السلطان''.
    وهذا أحد الأسباب، وهو نصرة السلطان على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله، وفرضه على عباده، مثل من يقول: إن الحكومة إنما أرادت المصلحة، والله تعالى إنما أنزل الدين لغرض المصلحة، فالمصلحة تتحقق بهذا القانون، وهذا القانون مأخوذ كثير منه من الفقه المالكي؛ لأن الفقه المالكي كان في الأندلس، ولما قُضي على المسلمين في الأندلس دخل الفقه المالكي إلى فرنسا، ثم جاء نابليون وأخذ من الفقه الفرنسي، وكثير منه مالكي، وهكذا... حتى يتوصل إلى أن الحكم بغير ما أنزل الله سائغ.
    يقول الشيخ شاكر: ''فحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله'' أي: أن الذي قصده نصرة السلطان أو قصده الاحتيال على شرع الله: ''وحكمه في الشريعة حكم الجاحد لحكم من أحكام الله، أن يستتاب؛ فإن أصر وكابر وجحد حكم الله، ورضي بتبديل الأحكام، فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين'' انتهى كلامه.
    يقول: إن هذا النوع وهذا الصنف من الناس يجب أن يستتاب وأن تقام عليه الحجة، وإن لم يتب وأصر على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله، فحكم من يصر على جحد حكم الله، وإحلال غيره محله، معروف أو معلوم عند أهل هذا الدين، وهو أنه قد خرج من الملة نسأل الله العفو والعافية.